شغل بطرس بطرس غالي منصب وزير الدولة للشئون الخارجية في مصر منذ عام 1977 حتى 1991، واختير بعدها أميناً عاماً للأمم المتحدة من بداية 1992 إلى نهاية عام 1996، وهو العربي الوحيد الذي شغل هذا المنصب العالمي.
ولولا قرار الرئيس محمد أنور السادات بالتطبيع مع إسرائيل فيما عُرف بمسار «كامب ديفيد» لما وصل غالي إلى هذا المنصب؛ لأنه جاء في سياق معاناة السادات من الاستقالات المتكررة لوزراء الخارجية الرافضين لتنازلاته الصادمة لتل أبيب، فجاء ببطرس غالي واعتمد عليه إلى نهاية عهده، واعتمد عليه مبارك بعده 10 سنوات أخرى.
كان غالي من أشد أنصار التطبيع مع إسرائيل، وجعل ذلك من أهم القضايا التي روّج بها لنفسه عندما ترشح في البرلمان عن الحزب الوطني الحاكم في الثمانينيات، وارتبط اسمه بالتطبيع، حتى إنه في أول زيارة له لموسكو عام 1986، استقبله أحد المسئولين الروس قائلاً، «صباح الخير يا سيد كامب ديفيد».
يصف وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى، بطرس غالي بأنه كان عضواً هو وزوجته في الطبقة الراقية الدولية وصالوناتها، التي تمكنك باقترابك منها من معرفة الإرهاصات السياسية والاقتصادية قبل وقوعها، وتضم كبار الساسة ورؤساء الشركات الكبرى والفنانين والمفكرين وزوجاتهم، وكانت النخبة في مصر بعيدة عن تلك الطبقة بشكل واضح.
كانت زوج بطرس غالي، ليا، من أسرة يهودية. وخلال سنوات عمله كانت تشاركه في المناسبات العامة فتستقبل زوجات كبار زوار مصر من الزعماء والوزراء، وأتقنت الفرنسية كزوجها، ومَثلَ الزوجان معاً نموذجاً لرموز النخبة الفرانكفونية المرتبطة بباريس.
في كتابه «بين النيل والقدس: يوميات دبلوماسي مصري» يستعرض غالي يوميات عمله في منصب وزير الدولة للشئون الخارجية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، ويبدأ بحادثة اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981. ورغم تقسيم الكتاب إلى فصول، لكنه في الحقيقة غير مُقسم موضوعياً، بل هو عبارة عن يوميات؛ فيذكر تاريخ اليوم ويحكي أهم ما دار فيه مع تعليقاته، وبالطبع لا يذكر كل الأيام، وإلا لاحتاج إلى آلاف الصفحات بلا فائدة، لكنه يختار أياماً معينة بشكل انتقائي.
يذكر غالى أن أبرز أهداف السياسة الخارجية في الفترة ما بين 1981 و1991 هي دعم الشعب الفلسطيني، والحفاظ على علاقات التطبيع مع إسرائيل، والتكامل مع السودان، والوجود المصري في أفريقيا ودعم تحرر دولها من الاستعمار، واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع البلاد العربية، ودفع حركة عدم الانحياز.
لم تُحقِّق القضية الفلسطينية مكسباً استثنائياً في عهده، وظلت حركة عدم الانحياز تراوح مكانها، ولم يتحقق هدف التكامل مع السودان أبداً بل ازدادت هوة الخلاف بين القاهرة والخرطوم. أمّا بالنسبة لهدف استئناف العلاقات الدبلوماسية مع البلاد العربية فقد تحقق كما كان متوقعاً، وكذلك استمر الحفاظ على علاقات التطبيع مع إسرائيل.
على مدار صفحات الكتاب يستعرض غالي جولاته الأفريقية؛ إذ ركز على القارة السمراء تحديداً خلال فترة خدمته، ومع ذلك يعترف مراراً بفشل الدبلوماسية المصرية في إنجاز الحد الأدنى من الدور المنتظر منها في القارة، ولم تكن هناك إنجازات بارزة في ملف دعم تحرر الدول الأفريقية من الاستعمار.
اختار غالي عنواناً ليومياته يلخص مشروعه الرئيسي في السياسة الخارجية المصرية، ألا وهو إعطاء الأولوية لقضية النيل على حساب القضية الفلسطينية، أي تراجع مصر عن الاهتمام بفلسطين ومشاكل العالم العربي بدرجة كبيرة لأن ذلك يمثل الماضي، والاهتمام بتقوية العلاقات مع دول حوض النيل لأنها تمثل المستقبل؛ فمصر تحتاج لماء النيل أكثر من حاجتها لحل النزاع في فلسطين. ومن ثم لا يتحدث عن أهمية تقوية علاقات مصر بالعالم الإسلامي، ولا العمق العربي، بل على العكس من ذلك يتحدث عن أهمية العلاقات مع أوروبا وأفريقيا بل وأمريكا اللاتينية.
يذكر غالي أنه أثناء إلقاء محاضرة في الكلية الحربية عن «الصراعات في الشرق الأوسط»، سأله ضابط شاب: «ما هو أخطر صراع على أمننا القومي؟»، فأجاب: «هو الصراع الذي يعيث فساداً في جنوب السودان، لأنه خطر على مياه النيل، مصدر الحياة لمصر».
يقول غالي:
«إن الصراع العربي - الإسرائيلي واستقلال فلسطين يسيطران على ذهن الجيل الجديد الذي أهمل السودان، والذي كان يُوصف في اتفاقية سنة 1899 أنه السودان الإنجليزي – المصري. هذا الجدل بين النيل والقدس الذي تحول إلى هوس لدى البعض، يصيبني بالقلق والغضب الشديدين».
يعتبر غالي أن اهتمام المسئولين المصريين بالمأساة الفلسطينية، والتركيز على العلاقات مع أوروبا قد أديا بنا إلى تهميش السودان ومشكلاته؛ حيث احتلت المشاكل التي تقع على نهر الأردن مكانة تلك الواقعة على نهر النيل، ويرى أن القضية الفلسطينية: «ليس لها سوى حل وحيد ليس له بديل؛ ألا وهو إنشاء دولة عربية - إسرائيلية واحدة يعيش فيها المستعمرون اليهود كأقلية نشطة وسط أغلبية فلسطينية. إن وضع هذه الدولة الفلسطينية - الإسرائيلية سيذكرنا بوضع جمهورية جنوب أفريقيا». ويُطالب الطرفين على قدم المساواة بتخطي مشاعر العداء المتبادلة بينهما!
ورغم توليه مهام لها صلة بالعلاقات العربية والتواصل مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه اجتهد في صرف الانتباه عن ذلك قدر ما أمكنه، لدرجة أن السفير الأمريكي نفسه لامه على الاهتمام بأفريقيا على حساب مشكلة الشرق الأوسط، وذلك في لقاء بينهما في 5 فبراير 1988، كما يذكر غالي أنه اندهش حين زار الدنمارك عام 1983، ووجد الباحثين هناك يعرفون الملف الفلسطيني أفضل منه، على حد تعبيره!
ومن ضمن ما يبرر به رؤيته، اقتناعه بأن حل القضية الفلسطينية ميؤوس منه. كذلك أبدى شماتة واضحة في سعي منظمة التحرير متأخراً للحاق بركب عملية السلام، وعلى حد قوله فإنه أخطأ خطأ دبلوماسياً حين قال في أحد المؤتمرات لسفير فلسطين إنهم يلجؤون لمبادرة السادات بعد 10 أعوام من إطلاقها.
فقد تولى غالي منصبه في وقت عارض فيه العرب مبادرة السادات للسلام، وقطعوا علاقاتهم مع مصر، ثم عادوا تباعاً. وفي عام 1983 عندما حارب الجيش السوري المقاومة الفلسطينية وطردها من لبنان لجأ ياسر عرفات إلى القاهرة بعد قطيعة دامت سنوات.
يحكي غالي:
«أثناء الاستعداد لاستقبال عرفات، كان مبارك متحفظاً عندما سأله: هل نعد الغداء؟ فقال: لا داعي فاللقاء لن يستمر طويلاً. عقد الرجلان، لقاء مغلقاً دام أكثر من ساعة ثم خرجا وهما يبتسمان: فقد تمت المصالحة، لم أعرف وكيف ولماذا تمت هذه المصالحة. التفت مبارك إليّ متسائلاً: هل الغداء جاهز؟ ولحسن الحظ، كان الغداء مُعدّاً».
عند المفاضلة بين النيل والقدس، يقف المتابع حائراً في فهم موقف غالي الذي تبنّى قضية التكامل مع السودان بقوة ودافع عنها نظرياً، لكنه عند التطبيق العملي اتخذ موقفاً سلبياً من أزمة متمردي جنوب السودان، واجتهد في إقناع مبارك بعدم تقديم أي عون للخرطوم في مواجهة الانفصاليين الجنوبيين المدعومين من إسرائيل وإثيوبيا، فكان يؤيد «اتخاذ موقف محايد تماماً» لعدم إغضاب الدول الداعمة للتمرد، بل احتفظ بعلاقات طيبة مع قادة التمرد، واتخذ موقفاً معادياً نظام الرئيس عمر البشير منذ بداية حكمه عام 1989 على عكس موقف مبارك والمخابرات آنذاك.
يعترف غالي أن الدبلوماسية المصرية اتخذت موقفاً سلبياً أمام سيناريو تفتيت السودان، ولم تفعل أي شيء لمحاولة علاج صراعاته القبلية، كما لم تتخذ أي إجراء استعداداً لاحتمال تقسيم السودان ومواجهة عواقب الانفصال، لكنه لم يفسر عدم معالجته لهذا القصور عندما كان على رأس الجهاز الدبلوماسي.
ينتمي غالي لعائلة أرثوذكسية عريقة في السياسة المصرية؛ بدايةً من جده بطرس غالي الذي عمل مع الاحتلال الإنجليزي في مصر وترأس محاكمة أهالي دنشواي الشهيرة عام 1906، التي حكمت على الفلاحين المصريين بالإعدام والجلد.
وفي مذكراته «بين النيل والقدس» فإنه، بعكس غيره من الدبلوماسيين، كثيراً ما يذكر ديانات الساسة الذين يقابلهم، إلا أنه لم يذكر ديانة زوجته التي تنتمي لعائلة يهودية معروفة. ويتحدث عن شعوره بالذنب لإهماله الاهتمام بمشاكل الكنيسة القبطية. وحين ترشّح لمجلس الشعب عام 1987، ركّز على ضمان تصويت المسيحيين ويقول إنه كثّف من زيارات الكنائس «للحصول على تأييد شركائه في الدين»، ويعترف بدفع أموال لهم خلال حملته الانتخابية؛ إذ يقول عند زيارته لكنيسة حارة السقايين:
«التزمت بالحفاظ على تراث العائلة في تقديم تبرعات سخية، وطالبت الكاهن بأن يدعو المصلين لإعطائي أصواتهم في الانتخابات».
يتحدث غالي مراراً في صفحات مذكراته عن هموم الأقلية القبطية ومشكلات بناء وترميم الكنائس التي كان القساوسة يعرضونها عليه خلال ترددهم عليه في مكتبه بمقر وزارة الخارجية، لكنه يقول إنه يرى نفسه غير مناسب ليقود الطائفة، ويتمنى لها قائداً يجلب لها حقوقها حتى لو كان علمانياً أو مسلماً.
ويعبر عن شعوره بالظلم الشديد لكونه لم يُعين وزيراً للخارجية وظل بدلاً من ذلك وزير دولة للشئون الخارجية، ويحكي أن لقاء جمعه بوزير الخارجية، الفريق كمال حسن علي، في السابع من يونيو 1984، فقال له «إذا عُينتَ في منصب رئيس الوزراء، فسيكون الوقت قد حان لأن أخلفك في وزارة الخارجية». فقال لي بصراحة ودودة، «لا تنس أنك مكروه تماماً في العالم العربي منذ مرافقتك للسادات في رحلة القدس، إضافة إلى ذلك، فأنت قبطي، وأنت تعرف جيداً أنه منذ قيام الثورة فإن هذا المنصب أصبح مخصصاً للمسلمين فقط؛ نظراً إلى العلاقات الوثيقة التي تربطنا بالدول الإسلامية»، فعلّق غالي قائلاً
«استمعت إليه في صمت وشعرت فجأة بأنني أريد أن أهجر كل شيء. لقد انتهت مهمتي بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل؛ أما ما بعد ذلك فهي تفاصيل متتالية وأحداث لا تترك بالضرورة أثراً كبيراً في الواقع».
وفي موضع آخر، أعرب غالي عن أمنيته بعودة الوضع كما كان أيام جده وعمه نجيب غالي وواصف غالي اللذين قادا الخارجية المصرية في العهد الملكي في ظل الاحتلال الإنجليزي.
لمّا تم تعيين عصمت عبد المجيد وزيراً للخارجية عام 1984 قرر بطرس غالي الاستقالة، فقال له مبارك إن كونه قبطياً لا يمنع ترقيه الوظيفي وأنه يحتفظ له في المستقبل بمناصب رفيعة جداً، وقد تجاهل تقريباً أي ذكر للوزير عصمت عبد المجيد في مذكراته.
كذلك أبدى غالي حنقاً شديداً على تعامل الحكومة مع الإسلاميين، ورأى أنها كانت متساهلة معهم وغير حازمة، فيقول في مايو 1987:
«إن حكومتنا ليست ممسكة كيفما ينبغي بزمام الأمور، ولم تفهم أنه لا يمكن التعايش بسلام مع المتعصبين، وإن الخيار الوحيد أمامنا هو إقصاؤهم».
ويتحدث صراحة عن قلقه من انتشار التدين بين المسلمين في مصر، معتبراً أن ذلك يهدد بتراجع الهوية الوطنية أمام الهوية الأصولية.
ويكرر كثيراً ذكر احتسائه الخمور في الحفلات والمقابلات الدبلوماسية وعدم قدرته على التوقف عن الشرب، ورغم اعترافه بأضرارها لكنه يمتدح أي مسئول عربي يشرب الخمر ويشيد به، معتبراً ذلك علامة على التحضر والتخلص من عادات القرون الوسطى، مثلما أثنى على وزير مغربي لمجرد كونه طلب كأس ويسكي علناً في حفل عشاء.
خلال يومياته المتناثرة يحكي الوزير مواقف تعرّض لها في أنحاء العالم، ويذكر تقييماته للزعماء والشخصيات التي قابلها، واللافت أن أهم صفة تستوقفه في أي منهم هي كونه مستمعاً جيداً أم لا.
ويذكر ملحوظات غاية في الأهمية، مثل حديثه عن ضرورة الاهتمام باستغلال المهاجرين المصريين في الخارج الذين يرسلون لمصر موارد مالية تساوي دخل قناة السويس، ومع ذلك فهو ملف مهمل.
ويعرب عن اعتقاده بوجود صلة تربط بين العسكريين على مستوى العالم، أياً كانت جنسياتهم ورتبهم، ويشير مراراً إلى تعجبه من سهولة وسلاسة ونجاح المباحثات بين الفريق كمال حسن علي وزير الخارجية آنذاك، والعسكريين الأجانب.
ويرى أنه لاحظ في سفرياته حول العالم أنه كلما كان البلد فقيراً ومتخلفاً، ازداد اهتمامه بالشكليات على أساس الافتراض أن الصورة الخارجية يمكن لها أن تغطي الضعف الخارجي.
كذلك يذكر غالي بعض الغرائب؛ مثل احتجاج السفير الفرنسي في الثاني من أبريل 1983 على إدانة مصر لكولونيل فرنسي كان يُهرّب مخدرات عبر مطار القاهرة، ويُعلِّل غالي ذلك بأنه كان يتاجر بالمخدرات لحساب جهاز المخابرات الفرنسية على ما يبدو الذي يحتاج لمصادر دخل سرية.
وأورد غالي وقائع، يؤكد أنها من الصعب تصديقها، مثل عدم وجود أرشيف كامل للمعاهدات الرسمية في وزارة الخارجية؛ فيقول
«إننا لا نحسن إيداع المعلومات في أرشيفنا ولا الرجوع إلى هذا الأرشيف، وفي الواقع فإننا نهمل تاريخنا، وهذه علامة من علامات التخلف الثقافي، وإلا فكيف نفسر أن الباحثين الأجانب هم من يتولى مهمة كتابة تاريخنا؟».
أخيراً، يفتخر غالي بشجاعته الأدبية التي جعلته يورد في مذكراته أخطاء ارتكبها أو أساء التقدير فيها؛ فيذكر أنه قدّم تقريراً للرئيس مبارك مفاده أن الإسرائيليين لن يتركوا سيناء في الموعد المتفق عليه، لكن ما حدث كان العكس، باستثناء طابا التي استرجعتها مصر بالتحكيم الدولي لاحقاً.